أن تكون فلسطينيًا: أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ الراهن | فصل

«أن تكون فلسطينيًا: أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ الراهن» (2022)

 

صدرت حديثًا عن «منشورات المتوسّط» الترجمة العربيّة لكتاب «أن تكون فلسطينيًا: أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ الراهن» (2022)، وهو أنطولوجيا شعريّة مختارة لشاعرات وشعراء فلسطينيّين أنجزها وأعدّها الشاعر ياسين عدنان والشاعر عبد اللطيف اللعبي، وكانت قد صدرت بالفرنسيّة عن «منشورات بوينتس».

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب للشاعر عبد اللطيف اللعبي، بالتعاون مع الناشر.

 


 

يكفي أن يُنْطَقَ اسم فلسطين - التاريخ، الأرض، البلد، الشعب، عدالة القضيّة، الكفاح من أجل الحياة، والآن الكفاح من أجل البقاء - ليحضر الشعر كضيف من تلقاء نفسه. ونادرًا ما نجد في تاريخ الأدب اسم بلد، والأمر يتعلّق هنا بفلسطين تحديدًا، يستحيل في حدّ ذاته شعريّةً. يجب الإقرار هنا بأنّ هذه المكانة تعود في جزء كبير منها لشعراء فلسطين الروّاد الّذين طَفِقُوا في بداية القرن الماضي يدرجون في ذاكرة شعوب الشرق الأدنى ذاكرة خاصّة قيد التكوّن، ذاكرة السكّان الفلسطينيّين الرازحين تحت نير الهيمنة البريطانيّة. إضافة إلى جيل الستّينيّات والسبعينيّات الّذي كان مهندس النشأة بوضعه العناصر المكوّنة للهويّة الفلسطينيّة الوطنيّة والثقافيّة، وقد كان محمود درويش حامل مشعل هذا الجيل، ولو أنّ شجرته السامقة لا يمكن أن تخفي غابة من الأصوات القويّة والأصيلة مثل معين بسيسو، توفيق زيّاد، فدوى طوقان، سميح القاسم، عزّ الدين المناصرة، محمّد القيسي، أحمد دحبور، مريد البرغوثي، وليد خزندار، خيري منصور، وآخرين.

بعد ذلك تعاقبت الأجيال لتغني هذه الشعريّة وتحتكّ بالنزعات الجديدة للشعر المعاصر، وتحمي وتبرز ديمومة القضيّة الفلسطينيّة، هذه الشوكة الّتي تسعى قوى الموت إلى نزعها من الضمير العامّ. إنّها معركة دواد ضدّ جالوت على نحو معكوس؛ فهذا الأخير، خلافًا للأسطورة، يعرف أكثر فأكثر كيف يناور، ويغذّي السراب ويربح المسافات حقيقةً ومجازًا لأجل حشر الخصم في طريق مسدود وإغلاقه عليه بعد تجريده من مقلاعه، ويبدو أنّها استراتيجيّة مربحة إذا اعتبرنا الصمت الّذي يلفّ لسنوات عديدة مصير الشعب الفلسطينيّ.

الأصوات النسائيّة هي الّتي كانت تقود الأوركسترا وتقلب الطاوبة بكسر أكثر التابوهات انغراسًا في الذهنيّة العربيّة الإسلاميّة المحافظة، وهي تتحدّث بصراحة عن الجسد والرغبة وأنواع الحرمان...

أنطولوجيا الشعر لكسر الصمت

هذا ما يبرّر في نظرنا هذا العمل ويضفي عليه طابع الاستعجال. فالأمر يتعلّق بالضبط بوضع حدّ لهذا الصمت والتنديد عاليًا بإنكار الحقّ وبتنظيم فقدان الذاكرة، وكذا بمنح الصوت من جديد للّواتي وللّذين يعيشون اليوم في ظلمة الطريق المسدود، وهم غير مرئيّين تقريبًا ولا يُسمعون على أيّة حال. وهنا يقرؤون ويكتبون ويحبّون ويحلمون ويسافرون بعيدًا ويفكّرون بحرّيّة.

إضافة لهذه الأسباب المباشرة والملحّة، ثمّة أخرى حفّزتنا بالمقدار عينه، منها رفع تحدّ لم يكن ممكنًا عقدًا أو عقدين من قبل: ضمان مناصفة دقيقة بين النساء والرجال عند اختيار الشاعرات والشعراء. إضافة إلى إقامة الدليل من جديد على أنّه في اللحظات الأشدّ صعوبة في تاريخ شعب ما، يكون الشعراء في الموعد ويقدّمون أحسن ما لديهم.

إنّ الحقيقة تلزمنا أن نقول بأنّه في اللحظة الّتي هممنا فيها بالقيام بهذا العمل كنّا بعيدين عن تخيّل ثراء وفرادة المنجم الشعريّ الّذي كنّا مقبلين على استكناهه، وكلّما توغّلنا داخل المنجم أثارنا تعدّد الأصوات المذهل الّذي ينبعث منه. ثمّ، لم لا نقرّ على التوّ، ودون إرادة النيل من السادة الذكور، أنّ الأصوات النسائيّة هي الّتي كانت تقود الأوركسترا وتقلب الطاوبة بكسر أكثر التابوهات انغراسًا في الذهنيّة العربيّة الإسلاميّة المحافظة، وهي تتحدّث بصراحة عن الجسد والرغبة وأنواع الحرمان، وبإعطائها رؤيتها، غير المسبوقة طبعًا، عن الجنس وأحاسيس الحبّ؟

وكأنّما قَبِلَ الرجال بهذه الجرأة، إن لم يطالبوا بالمزيد منها. ذاك أنّهم يبحثون بدورهم عن ذواتهم بعد أن فرّوا من هذه الحرب الداخليّة، ليتمكّنوا من مواجهة ضروب الهمجيّة الّتي يمارسها عليهم الاحتلال يوميًّا. بذلك يلتقي الجميع في هذه الجبهة، لكن على نحو مختلف عن سابقيهم الّذين كانوا ذات زمن معشوقيهم. ذلك لأنّ ’القضيّة الفلسطينيّة‘ الّتي لاقت وقتذاك تضامنًا واسعًا عبر العالم، أضحت اليوم مغيّبة بذكاء من لَدُنّ الجالوت المحلّيّ، وتخلّصت منها أنظمة الأشقّاء الزائفين، وتخلّى عنها إلى حدّ كبير ما كان يسمّى آنذاك ’الشارع العربيّ‘. في ما تغيّرت، علاوةً على ذلك، المعطيات المجتمعيّة والسياسيّة على أرض الواقع تغيّرًا جذريًّا، وقيام دولة فلسطينيّة لم يعد ينتمي لدائرة اليوتوبيا الجميلة، وإنّما أصبح بكلّ بساطة مستحيلًا. هكذا بدأ الفلسطينيّون يتحوّلون، حسب العبارة المتداولة، إلى ’شعب بلا أرض‘ على غرار الأكراد والإيغور والروهينغا وشعوب أخرى حُكِمَ عليها بالتيه والكفاح المتواصل للحفاظ على هويّتها وضمان بقائها.

 

الشعر: الأرض البديلة لفردوس مفقود

إنّ الشعراء، النساء أو الرجال، الّذين أعطيناهم الكلمة هنا، منتشرون في بقاع العالم كلّه أو محشورون داخل سجون بسماء مفتوحة أو مغلقة – غزّة، الضفّة، القدس الشرقيّة – أو يعانون داخل إسرائيل من تمييز عنصريّ ’أبارتايد‘ لا يعلن عن نفسه، أو مجمّعون منذ عقود في مخيّمات خصّتهم بها مختلف بدان الجوار – الأردنّ، لبنان، سوريا – أو منفيّون في بلدان الخليج دون أن يتمتّعوا بأيّ من حقوق المواطنة.

بالنظر لهذا الواقع المعيش، كان من الممكن أن نتوقّع شعرًا متشظّيًا غير متجذّر في واقع محدّد، دون وشائج ملموسة تربطه بأرض ومجتمع وثقافة واستمراريّة تاريخيّة، وهذه كلّها نواقص تضع في خانة الإشكاليّات كلًّا من شعور الانتماء والاعتراف والمطالبة بهويّة خاصّة، والحال أنّ الأمر غير ذلك تمامًا. تلك إذن هي شبه المعجزة الّتي تفوّق هؤلاء الشعراء والشاعرات في تحقيقها.

لن نستمع إلّا لأفراد يسردون معيشهم الخاصّ، وما يرَوْنَه ويجسّون نبضه في واقعهم اليوميّ، وفي أحلام يقظتهم وكوابيسهم – وهذه الأخيرة لا تعدّ ولا تحصى...

فأينما حطّوا الرحال، في رايكجافيك، أو ستوكهولم، أو برلين، أو باريس، أو ميلانو، أو غزّة، أو القدس، أو حيفا، أو الخليل، أو الناصرة، أو نابلس، أو رام الله، أو في بلدان الجوار العربيّة أو بلدان الخليج، سواءً أكانوا أحرارًا أم يخضعون للقيود المفروضة عليهم أو داخل السجن، فهم يمنحون في كتاباتهم الشعور، بل الإحساس القويّ بالعيش داخل كيان لم يعودوا في حاجة حتّى لتسميته: فردوس مفقود، بلد من وحي الاستيهام، أرض عذاب، أرض حرب مسترسلة، مقبرة شاسعة، قدس الأقداس، عطور، ألوان، جمال الحجارة والأشجار وإبداعات الإنسان الّتي لا مثيل لها. وهي في لغتنا: فلسطين! حيث "الأرض بتتكلّم عربيّ" كما تقول الأغنية. وإذا بالشاعرات والشعراء يجعلونها، بفعل سلطة فنّهم، حيّة ملموسة، ويبرزون تفاصيل جسدها وروحها وديدنها اليوميّ العاديّ منه والضارب في الوحشيّة، وينتزعونها من بين مخالب الأساطير الّتي تقيّدها، ليجعلوها في متناول أفهامنا وحسّ العدالة لدينا، ثم قدرتنا على الرأفة ومتطلّبات وعينا الّتي لا تقبل التجزئة.

الخاصّيّة المذهلة الأخرى الّتي ينفرد بها هذا المنجز الشعريّ هي عقليّة مشتركة لدى غالبيّة المتدخّلين الّذين قُدِّموا هنا؛ فلا أحد منهم يتكلّم باسم الكيان المشار إليه أعلاه، أو باسم الجماعة الّتي تعيش فيه وتعلن عن انتمائها إليه. لن نستمع إلّا لأفراد يسردون معيشهم الخاصّ، وما يرَوْنَه ويجسّون نبضه في واقعهم اليوميّ، وفي أحلام يقظتهم وكوابيسهم – وهذه الأخيرة لا تعدّ ولا تحصى.

من هنا، فإنّ الخاصّ الّذي يركّزون عليه انتباههم الفطن ويتناولونه غالبًا بنوع من السخرية السوداء، السوداء جدًّا، مهجّنة بسخرية بريطانيّة، أو ’بريتيش‘ – وهذا تعريف يمكن إسباغه على السخرية الفلسطينيّة – هذا الخاصّ يكتسب طبيعيًّا بعدًا كونيًّا. ولم يسبق أن كان ثمّة في المجال الثقافيّ الّذي ينتمون إليه شعر يندرج، بمثل هذه السمة الطبيعيّة، في ما ينجز من أعمال على أعلى درجات الملاءمة والصداميّة في الشعر المعاصر.

لهذا وجدنا في ترجمة هذا الشعر يُسْرًا كما وجدنا فيها لذّة، والآن لندعه يفتح أعيننا وقلوبنا من جديد، ويعيد إحياء حسّنا التشاركيّ، وإجمالًا أن يربطنا بالقيم النفيسة لإنسانيّتنا.

 


 

عبد اللطيف اللعبي

 

 

 

كاتب وشاعر ومترجم مغربيّ مهتمّ بالآداب الفرانكفونيّة، وعضو اتّحاد كتّاب المغرب، حصل على «جائزة غونكور» الفرنسيّة للشعر عام 2009، والجائزة الكبرى للفرانكفونيّة الّتي تمنحها «أكاديميّة اللغة الفرنسيّة» (2011).